إن المتتبع لكرونولوجيا سوسيولوجيا التنظيم يجدها لا تخرج بصورة أو بأخرى عن نطاق دراسة وتحليل عناصر العقلنة والسلطة في التنظيم، لأنه لاوجود لأي تنظيم مهما كان نوعه إلا بوجودهما، لكن الاختلاف بينهما يكمن في الأسبقية والأهمية التي تعطيها كل واحدة من هذه الدراسات لأحدهما على حساب الآخر، فالاختلاف جوهري إذا، لأنه اختلاف في التصور النظري والمنهجي لحيثيات أزمة التنظيم وخصوصيات التطور التاريخي لكل مجتمع، وهذا ما حصل بالفعل مع بداية ظهور التنظيمات الصناعية الحديثة بحيث كانت جهود الباحثين والعلماء منصبة حول تمكين العقلنة من فرض نفوذها وبسط سلطتها في التنظيم، وخاصة في المجتمعات الرأسمالية، وأن ما يسمى بعقلنة السلطة أو عقلانية السلطة لم تطرح بتاتا في هذه المجتمعات لأن الممارسات الاجتماعية والجهود الفكرية والتطبيقية التي كانت تقوم بها هذه السلطة لا تتعارض البتة مع أهداف المشروع الاجتماعي للحداثة والتنمية لهذه المجتمعات، وكانت هذه السلطة، هي القوى الطلائعية والقيادية له بحيث هذه الأخيرة كانت ترى لاوجود اجتماعي وثقافي لها الا من خلال فرض العقلنة المناسبة، من أجل تحقيق المشروع المنشود، وذلك بالقطيعة التامة والنهائية مع أساليب وتقنيات العمل التي كانت سائدة من قبل، ولذا كان هاجسهم هو البحث عن أنسب وأنجع الوسائل التنظيمية التي تسمح بتحقيق الانتاجية اللازمة والمحددة في أقل وقت ممكن وبأقل جهد مبذول[1].
إلا أن المتتبع لأوضاع العالم العربي بصفة عامة، والجزائر بصفة خاصة، يلاحظ التداخل بين مجموعة من العصبيات المختلفة، الاجتماعية والسياسية والدينية ...الخ. إن العصبية بما هي مفهوم مركزي عند ابن خلدون، والذي يقوم على أساس القرابة والولاء، يمتدّ نفوذه عبر البنى الاجتماعية التي ينظر إليها بما هي بنى تقليدية (القبيلة)، غير أنه يعبر عنها بالعشائرية خاصة إذا تعلق الأمر بطريقة في الحكم أو سلوك سياسي أو اجتماعي يعتمد على القرابة بالمعنى العرقي الدموي أو بمعنى الجوار، حتى وإن كانت ذات الشحنة العصبية مثل الانتماء إلى مدينة، أو مقاطعة ، أو محافظة، ويضيق نطاق الانتماء إلى الحيّ، المحلة، الجهة، العرش (مفرد العروش)، الريف، القرية...
وهذا يجرنا للحديث عن القيم الثقافية التي يحملها العمال الجزائريين النابعة من علاقات القرابة والجهوية والعصبية القبلية  والأطر الاجتماعية التي توجه سلوكه وتطبع المؤسسة , هذه الأخيرة يجب مراعاتها , باعتبارها إحدى أساسيات تحقيق الفعالية الاقتصادية , فالتوجه الحديث هو ضرورة الاهتمام بالرأسمال الاجتماعي وتثمينه.
ومنه فإن مسألة تطبيق أطروحات ميشال كروزي , ديبار , سانسوليو ليس بالأمر الهين كون هذه الأخير طبقت في بيئة تختلف كليا عن البيئة الجزائرية , فالبيئة الفرنسية عرفت أحداث خاصة ماي  1969   المظاهرات التي قادتها النخبة في فرنسا غير العديد من المفاهيم التي كانت تتعامل بموجبها السلطة والنخبة الثقافية فسرها كروزي بأنها أزمة ثقافية دفعة بهم الى اختيار الشارع للتعبير عن الرفض.
       فالبيئة التنظيمية الفرنسية تختلف في تطورها التاريخي والاجتماعي والثقافي عن البيئة التنظيمية الجزائرية، فمعالجة نظرية لتفسير سلوك مختلف الفاعلين بالمؤسسة ومعالجة أزمة العقلنة الاقتصادية من خلال القيم الموجودة في المؤسسة الجزائرية  تحتاج لكثير من التريث , إذ نلاحظ أن هذه الأفعال انعكاس لتأثر الأفراد بأساليب التنشئة الاجتماعية سواء الأسرية أو غيرها كالمدرسة ووسائل الاعلام، فالتسلط الموجود سواء في الأسرة أو الشارع أو المدرسة سبب في أصل العنف بشقيه المادي والرمزي، أما الأسرة تعمل على تنشئة الطفل على فكرة الولاء لها و للعرش خاصة عندنا في منطقة أولاد نايل أو الولاء للحي أو القرية فقيمة الفرد تتحدد من خلال مكانة عائلته، وبالتالي يلازمه شعور الولاء والواجب نحو الأسرة والقبيلة، فواقع البيئة التنظيمية للمؤسسة الاقتصادية الجزائرية يؤكد هذا النوع من التنشئة، فتصرفات الأفراد تظهر في أفعال: كالمعريفة، المحسوبية، الولاء للعرش ( بن عميس)  التهرب، اللامعيارية، الاغتراب " التي لا تتماشى والعقلانية ومنه يفقد التنظيم شروط استمراره، فغياب العقلنة والموضوعية في المؤسسة الاقتصادية الجزائرية جعلها تعرف مشاكل كالتفكير في الامتيازات وتناسي الحقوق والواجبات، أو تدعيم المناصب بأفراد أقارب ومعارف أو تحقيق مصالح شخصية كزيادة سلطة المسؤولين وبقائهم في المؤسسة، مما أعاق المشروع الاقتصادي.


[1] - بن عيسى المهدي: تحليل سوسيولوجي لأزمة العقلنة في التنظيم الصناعي في الجزائر، مذرة ماجستير في العمل والتنظيم، غير منشورة، جامعة الجزائر، 1995/1996، ص 15.

تعليقات

  1. إنَ هكذا طرح يمس مفصل العملية التنظيمية في مجتمعنا ويتجاوز النظرة الفوقية المتعالية التي تاخذ المجتمعات نحو الادوات الغربية ولا تحاول النزول بادوات السوسيولوجيا الى المجتمع الحامل لخصوصية تصطنع ضرورة وحتميات اداتية جديدة ومتفردة.
    خيري نوح.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة